رغم حصولي على الترتيب الأول في المدرسة، والرابع على مستوى ذكور المملكة في الفرع المعلوماتي، وعلى أثر ذلك دخولي تخصص المحاسبة بتنافسٍ إلى الجامعة، كانت نظرة ُ المجتمع المتدنية إلى طلاب المجالات الإنسانية في الجامعة إذا ما قارنتها بنظرتهم إلى طلاب الكليات العلمية تستفزني، وذلك لقناعتي الكاملة أنني كنت قادراً على الإلتحاق بتلك التخصصات العلمية واجتيازها بنجاح، وأن تحصيلي المدرسي في المواد العلمية كان أفضل من تحصيل نصفهم، وما اختياري لتخصص الإدارة – فيما بعد – إلا عن قناعةً شخصية تامة، وموائمةً لميولي في مجالٍ أؤمن بأنني لن أكون عادياً بل مبدعاً فيه، مبتعداً عن قناعاتٍ لا صحة لها، ترجح كفة الطبيب والمهندس – ولو كان اختيارهم عن غير رغبة – على رواد المجالات الإنسانية

لكن لا عجب أن يكون هذا الإعتقاد السائد والأرجح، في ظل ثقافة تعظِّم الهيبة المصاحبة لحرف د. أو م. الذان يسبقان اسم الطبيب والمهندس، بدلاً من أن تعظِّم سمو العلم المصاحب لهذه المهن. ولا عجب أن يكون هذا الاعتقاد السائد والأرجح في ظل نظام تعليمي يهيمن عليه التلقين والحفظ بدلاً من التفكير الناقد والتحليل اللذان يشكلان لذة دراسة العلوم الإنسانية وطريقة الإبداع فيها. عداك أن التخصصات الإنسانية أصبحت مرتبطة بذوي المعدلات المتدنية والأقل جلداً على الدراسة والبحث العلمي في جامعاتنا، وكأنها منفذ ٌ لمن لا طموح له ولا ميول

لقد دفعتني هذه القناعات الخاطئة، والتوجهات السلبية نحو العلوم الإنسانية – التي لا أساس لها من الوجود في المجتمعات الغربية – إلى مناقشة أسباب هذه الإعتقادات وجذورها والتأكيد على عدم دقتها، إضافة إلى إبراز أهمية دراسة العلوم الإنسانية وسموها

وأنوهُ أن المقال لا يهاجم العلوم الطبيعية بأي شكلٍ من الأشكال ولا يقلل من قيمتها، لا بل أنني أدرك تماماً أهميتها في الثورة الصناعية والعولمة والصحة والعمار والطب وتفسير الكون وتسهيل الحياة والتنمية البشرية، وأن محتواها إذا تعمقنا به فهو أكثر تعقيداً وصعوبة من العلوم الأخرى. إلا أن هذا المقال هو دفاعُ بالتحديد عن العلوم الإنسانية، وبيانٌ لأهمية دراستها ورُقِيِهَا

إن الطبيعة المعقدة لتكوين الإنسان وتطوره تمثل الأهمية الجوهرية للعلوم الإنسانية، فالإنسان كائنٌ إجتماعي تفرّد بقدرته على تبادل المعلومات والتواصل والتنظيم وتكوين الجماعات والأسر والعيش فيها، وله شخصيةٌ قادرةٌ على التعلم ومحاطة بالمشاعر والأحساسيس، وقد طَّور عبر التفاعل الإجتماعي منظومةً من القيم والمعايير التي تشكل بمجملها أساساً للمجتمع الذي يعيش فيه. هذه الأمور وغيرها المتصلة بالإنسان نفسه وعلاقاته ومجتمعه لا تدرسها العلوم الطبيعية بل العلوم الإنسانية التي تهدف في جلها إلى خلق حياة أفضل للإنسان والسمو بتفكيره وتحقيق النمو في المجتمع والحضارات. فمثلاً، يدرس علم النفس سلوك الإنسان وشخصيته وتفكيره، بينما يركز علم الإجتماع على التفاعلات الإجتماعية للبشر، ويدرس الإقتصاد التوزيع الأمثل للموارد المحدودة في ظل الحاجات المتزايدة للإنسان، حين تعمل الإدارة على تنسيق الجهود الإنسانية لتحقيق أهداف المنظمات بالاستخدام الكفؤ والفعَّال لهذه الموارد

كما أن العلوم الإنسانية هي التي تعطي القيمة المعنوية والروحانية للحياة، فبدونها لا نفهم مغزى السلوكات والمجتمعات ولا نفهم كيف نستغل مواردنا النادرة ولا حتى نصل إلى الرفاه الذي نعيشه. فليست وحدها التكنولوجيا الحديثة التي أسهمت في المنتجات والخدمات الذكية التي نقتنيها الأن وتشكل جزءاً أساسياً من حياتنا، بل وأيضاً إدارةٌ مميزة، وقيادةٌ فعَّالة، ونظامٌ إقتصاديٌ مرن واستراتيجيات تسويقية هادفة تلعب الدور الأكبر في توظيف الإمكانيات البشرية لصنع هذه المنتجات وإيصالها إلينا

إن الثقافة السطحية المذكورة في العنوان هي تلك التي تقدِّس – كما قلت سابقاً – الألقاب المصحوبة بالمهن، معتقدة أن هيبة الطبيب مثلاً ومركزه الإجتماعي مرتبطان بكونه يزاول مهنةً في الطب بدلاً من أن تعزوها إلى إخلاص هذا الشخص وتفانيه في عمله على سبيل المثال. كما يظهر الإعتقاد السائد أن تخصصاً معينـاً لا جدوى منه إذا كان لا مسمى وظيفي له، فطالب الهندسة يصبح (مهندساً) – ولو كان عاطلاً عن العمل – ولكن هل يصبح مسمى طالب الإقتصاد او الإدارة مديراً أو اقتصادياً؟ وهل ينتهي مشوار الأربع سنوات من دراسة علم النفس بوظيفة مرشد نفسي في مدرسة؟ حتى لو تناسينا ثقافة العيب السائدة واحتقار بعض المهن لمسماها المتواضع، إلا أنه من الجلي أن روعة المعرفة المستقاة من مجال معين وأهميته لا يرتبطان بالوظيفة، والتي قد يتحددإادراك الناس نحوها بعوامل إقتصادية كالبطالة وسياسات العمل، وإجتماعية وثقافية كالإهتمام باللقب الإجتماعي

وتلعب طريقة التعليم في المدارس والجامعات في مجتمعنا برأيي الدور الأكبر في تشويه صورة العلوم الإنسانية. فالتلقين والتحفيظ المرتبط بمواد الإدارة والتسويق وعلم النفس والإجتماع والإقتصاد وغيرها في الجامعات، وأسلوب التقييم الذي يقيس الحفظ لا الفهم والتحليل، وأسلوب نقل المعلومة الذي يخلو من إبراز الآراء المختلفة ويقتصر على الطريقة الواحدة المثلى، وغياب التطبيق العملي والميداني، كلها تتناقض مع طبيعة العلوم الإنسانية، التي تحلو دراستها لعدم وجود طريقة مثلى لقياس الأشياء التي تدرسها، ومنهج واحد يفسر الظواهر، وتفسير واحد للسلوكيات. فالعوامل النفسية والإختلافات الثقافية والسياسات المحلية والتركيب السكاني كلها عوامل لا تجعل منهج إقتصادي أو اإاري واحد مثلاً صالحاً في كل الظروف. إن جمال هذه العلوم يكمن في أنها تتضمن مدارس مختلفة ومناهج متعددة، تشعل حدة النقاش بين رواد هذه المجالات في ساحاته، وتخلق فرصاً أكبر للإبداع فيه والمساهمة في تطويره، وبذلك تطوير الأداء الإقتصادي أو البشري وتحقيق النمو الإجتماعي أو التغيير الذي يسهم في رفعة المجتمعات وتحسن مستوى المعيشة

فكيف نخلق الشعور بأهمية تلك العلوم وجمالها حين يكون مكمنها وهو التحليل والتفكير النقدي والابداعي غائباً عن نظام التعليم لدينا؟ وكيف لا نعتبرها ثانوية حين يكون أسلوب تدريسها خاطئأً لا يشجع على فهمها وتطبيقها ولا يعرض كل مناحيها؟

بقلم: سهم إبراهيم كشت

مراجعة: مازن قباري

تصوير: محمود منسي